top of page
Search
  • mwaffahajjar

(أنا) في نون النّفّريّ

Updated: Apr 1, 2022





في مديح القلق، قال صديقي النّفّري:

إن سكنتَ إلى العبارةِ نُمتَ، وإن نمتَ مُتَّ، فلا بحياةٍ ظفرتَ ولا على عبارةٍ حصلتَ.

لم تكن هي المرّة الأولى التي سرت فيها مع صديقي -كمراهقَين- في دمشق القديمة، لكنّني أتذكّرها الآن كما لو أنها الأولى فعلاً. كنّا في حارة القَيْمَريَّة تحديداً، أي في الطريق التي يسلكها السالكون ويعبرها العابرون في دمشق. إنّها الطريق التي تفتح قلبَ دمشقَ القديمةِ لك، وتضعك أمام مَشهد الجامعِ الأمويّ المذهلِ. هي الطريق التي تأخذُك من العجلة إلى الحجارة. ومن المدينةِ إلى داخل المدينةِ.




إنّها الطريق التي يعرفها كلّ العشّاق والزوّار. هي مسلك السالكين كما قلت فعلاً. حارة القميريّة، التي تصل ساحة باب توما، بساحة الجامع الأمويّ. والتي أستطيع أن أتذكّرها كما لو أنّني كنت قبل قليلٍ هناك، أتذكّر أصوات المشهد، أكثر من أشكاله. والصّدق، أنني أتذكّر ضجيج الأصوات، لا الأصوات نفسها، أذكر صوت الطفل والرجل الكبير، وهمهمة العشاق، أذكر مواء القطط، أذكر صوت عجلة البسكليت، حين تعبر بين حجرين فتتعثر مصدرة صوتاً صناعيّاً غير مهم. أتذكّر صوت الحمَامِ يصفق بجناحيه من سطح إلى آخر. وصوت الأكياس التي ترتطم بأفخاذ النساء والرجال حين يمشون، أتذكّر أصوات المشي، أصوات الخطوات من أول الشارع إلى نهايته. وكذلك أصواتاً أخرى. إنّها في رأسي الآن. فكيف تُكتَب الأصوات؟





يمكنني كذلك أن أرى العريشة الخضراء التي تتدلى بين بيتين من بيوت الحارة، وترخي ظلّها على أرض الحارة، أي على حجارتها العثمانيّة، فتصنع ظلاً أسود فوق حجارة رماديّة. تتلألأ من خلالها بقع صغيرةٌ من الشمس المتسللة. وليست هذه البقعة التي أصفها إلا عبارة عن مترٍ مربعٍ من المساحة في آخر حارة القيمريّة، قرب محلّ الرسام الذي باع لوحاته وغادر. لا أعرف عنه أيّ شيء ٍآخر. أتذكّر كل المحالّ تقريباً. كلّها. فعلاً. أتذكر الخردة والساعات والدببة الملونة، أتذكّر الفول والحمّص، المطاعم، والصناديق الكثيرة الموحية بالحبّ. أتذكّر الكرواسان والعطور والليمون، نعم صدّقوا لو قلت إنّني لم أنسَ شيئاً في هذه الحارة. حتّى صنبور المياه المعطّل على الطرف الأيسر قرب محلّ الفول. لم أنسَ أيّ شيء في هذه الحارة. أتذكّر كلّ ما أستطيع تذكّره وكل ما قد فكّرت أو شعرت به فيها. مع أنّي أميل دوماً إلى خلط الأماكن ودمج الذكريات، لكنّ هذه الحارة الغريبة، والتي تخترق الحداثة، وتدوس في خاصرتها، لا يمكن أن أنساها.

والآن، منذ سنةٍ تقريباً، لا تغيب هذه الحارة عن ذهني، أو لا تغيب لحظةٌ واحدة ومعيّنةٌ فيها عن الحضور إلى ذهني. لم تكن لحظة عابرة، بل كانت واحدة من تلك التي نتذكرها إلى أن نموت، أو أن نفقد الذاكرة. إنّها اللحظة التي سمعت فيها موسيقا غريبةً تخترق الحارة كلّها وتعبث بضجيجها المعتاد. كنّا نمشي وصديقي، لأول مرة هناك كما أشعر الآن، وسمعت تلك الموسيقا الغريبة تصدر من محل أصغر من أن يكون حقيقياً. وربّما لم يكن أبداً. كنت على وشكِ أن أقدم على فعلٍ جديد تماماً. هي واحدة من اللحظات التي تعرف خلالها، أنّك تصنع ذاكرة للمستقبل. لقد كانت المرّة الأولى التي أشتري بها الموسيقا. كان البائع شاباً صغيراً وفنّاناً يعرف ما يسمع، وكنت أنا حالماً ومذهولاً بالصوت العالي الذي يخترق الحارة كلّها. ولم تكن الموسيقا مزعجة، بل كانت غريبة. اشتريت منه ٦ سيديّات مختلفة، أذكرها وأملكها إلى الآن. واحد منها هو ما قادني لتذكّر كلّ هذه التفاصيل. كان ألبوماً لفرقة مغربيّة تدعى "وشم" وكان عنوانه "تيه" وكان السبب وراء دخولي إلى المحل، الذي اختفى لاحقاً وتحول لمحلّ صناديق وهدايا لعيد الحبّ.

لماذا أتذكّر كل هذا؟ لأنني لا أريد لهذه التجربة أن تنتهي.


أدعوك للاستماع معي إلى أحد مسارات الألبوم، وهي المقدمة:




كُتب على القرص أمام عنوان هذا المسار: {أبياتٌ للنّفّريّ (شيخ صوفيّ)}. ولم أكن لأعرف أيّ شيء عن النّفّريّ. هكذا عرفت النّفّريّ وتهتُ مع عبارته في غرفتي الصفراء القديمة في قدسيا. الغرفة التي عشت فيها الحصار قبل سنين. كلُّ شيء يبدو غريباً من بعيد. الغرفة، الموسيقا، الجيران الذين يشتكون من صوت الفرقة (وأبي كذلك)، الحصار، بيتي، سوريّا. كل شيء الآن صار أكثر بعداً وغرابة. والآن أتذكّر كلّ ذلك دفعة واحدة.


لاستماعٍ أفضل. أنصحك بالاستماع في الظلام. دع عينيك مفتوحتين على ظلمة دامسة. وحاول أن تسمع بهما.


أتعامل مع أطروحتي لنيل درجة الماجستير، والتي ستكون بطريقة أو بأخرى عن نصوص النّفّريّ، بشكلٍ علميّ، في معظم الأحيان، لكنّي كذلك، أحياناً، أشعر بالرغبة في الجريان العاطفيّ مع الفكرة. هناك ما دفعني للعمل على هذه النصوص، وليس السبب أكاديمياً ولا شعريّاً. إنّه سبب يُعنى بي. سببٌ قبليّ، كنت أجهله، لكنّه تكشّف لي، شيئاً فشيئاً ونصّاً فنصّاً. إنّ قلقاً ما لا يكاد ينتهي في هذه المواقف النّفّريّة، يدفعني دوماً إلى داخلي، وإلى مساحات كنتُ قد تجاهلتها في لغتي أو في لغة ذاكرتي الصوريّة.


الآن.. أحياناً.. في الليل.. أشعر أنّي أخونُ صاحب النّصّ. أشعرُ أنّي قد استحوذت على قلقه الذي لا يمكن وصفه في هذه السطور، قلقه الذي دفع الدمع من عيوني أحياناً. كم كان هذا الشخصُ قلقاً؟ هل كان خائفاً؟ أو كان مرهفاً، كم كان فنّاناً؟ كم كان ماهراً في التّمعن؟ أحاول أحياناً أن أتخيّله، أن أرسم له شخصاً. أقول، هل كان يشبه أهل زمانه؟ هل كان ينوي أن يتحدث إلى أحد عن رؤاه وعن خياله؟ هل كان موجوداً أصلاً؟


تغري بعض الناس فكرةُ شبحيّة هذه الشخصيّة. لكنّني لا أفكّر بها أصلاً. لا يهمّني اسمه، ولا وجهته وموقعه. لقد عرفت ذلك كلّه من النّصّ، إنّ ما يهمّني هو أن شخصاً ما، عاش قبل أكثر من عشر قرونٍ، قد مشى وفكّر، واستخدم لغتي نفسها ليكتب على أوراق وجزازات صغيرة. ويعبّر بها عن قلقٍ ولهوٍ وحلمٍ لا نهائيٍ ثم اختفى. ولم يختفِ. ما يهمّني، هو الفكرة التي تنهض من نصوصه به. وكأنّه الآن أمامي، جالساً. أو واقفاً. أراه قبل أن أنام، يمشي في شارع طويل. يتحرّك وبيده أوراقه وحده! وحدَه!


إنّه الشخص-الفكرة، العابر لعشر قرون نحوي، صديقي الذي بات بقرب سريري لمدة عامٍ كامل. وما يشغلني فعلاً هو أنني بكل جنوني وعاديّتي ولحظتي الاعتباطيّة، ومكاني هنا، أقرأ ما قد عاش عمراً طويلاً وأحاول تأويله. فكرةٌ مخيفة. إنّني أتعامل مع أفكار وأحلام وخيال شخصٍ آخر، وأستحوذ عليها جميعاً، بل أمارس تأويلها وهذا عنفٌ حقيقي. هي رغبةٌ بالسيطرة. لم أكن أحسب خطورتها.


أفكّر، بخشوع فيه. مع أنّي أعرف أنّه كان "محتالاً" وفنّاناً ومسرحيّاً عظيماً. لكنّ المسافة التاريخية بيننا تجعلني حقيراً أمامه، فأخشع وأصغر وأتناهى حينَ أفكّر بعظمة فكرة الكتابة. ما هذا الفعل العظيم القادر على خرق الموت والاستهزاء بالتاريخ، والانتصار على النسيان؟ ما هذا الفعل الذي يحمل أفكار شخصٍ من القرن الرابع للهجرة، إلى شابٍ لاجئ هارب مهاجر في القرن الواحد والعشرين للميلاد.


والآن وقد شارفت على النهاية بعد عام كامل على القراءة، أشعر بالتردد، والرهبة. لا أريد لهذا الحلم أن ينتهي، ولا لزياراتك لي أن تنتهي، لا أريد لمتعة التأويل أن تختفي، أريد أن أتعجب منك أكثر، أن أغوص في بحار قولك أكثر، ولا أريد أن يكفّ الناس عن سؤالي عنك. لا أريد لهذه القراءة أن تنتهي. وأحلم. أحلم فيك كثيراً. أتخيّلك ككلمة، أتخيّل كيف تخيّلت اللغة وصُغت الأمكنة. أتخيّل كيف صنعت لنفسك أيها المجهول مكاناً دون مكان. وسكنت دون سكينة، ووجدت دون السّوى. وقد وجدتُ بك، وبنصوصك.


إنّ فكرةً أكثر عمقاً وجلالاً من كونك النّفّريّ، فلان بن فلان، أنّك شخصٌ ما أجاد اللغة، وأحبّ الخيال، وعشق ألعاب الكلام، فقرر أن يكتبَ نصّاً واحداً، أو عديد النصوص. ثم رحل كغيره، ولم يرحل كما رحل غيره. وظلّت نصوصه بعده، وقبله وكأنها هو.


أيّها النّفّريّ-الكلمة. فلست أراك ولا أستطيع، لكنّني كلما فكرت فيك، وجدتك كالكلمة. أيّها الشخص الكلمة الذي ينام على سطر في موقف. أيّها النّفّريّ الكلمة. إنّني في التّيه يا صديقي، إنّني في التيه الذي قد كنتَ فيه. وأنا كذلك مثلك أمشي وأسير وأعبرُ. بحثاً عن منزلٍ واحد. فلا تسألني: أين تبني؟


لقد قلتَ لي كلّ شيء تماماً. وأنا ما زلت أخشى أن أنهي هذه الرحلة معك. يا أنيسي في ليالٍ كنت أحسبها طويلة. وصديقي في نهارات مريرة. لا أعرف الآن كيف أكتب خاتمة هذه الأطروحة التي جمعتني بك. فإليك بلابل قلبي، وإليك الهواجس التي كانت لك يوماً فصارت لي. وإليك النصوص مرة أخرى. خذها كما أعطيت. وقل لي كما قد قال لك. فإنّي ضاق بي الكون، وضاقت بي المعرفة، وضاق الأدب.


فلتكن سياحةً، لا نهائيةً، فمن لا بيت له، لا قرار له.







83 views1 comment
Post: Blog2 Post
bottom of page