top of page
Search
  • mwaffahajjar

غسان كنفاني، صورة أبديّة على حائط عالم ليس لنا - (نشر على "فسحة")


رابط المقال على فسحة:

https://www.arab48.com/فسحة/ورق/آخر/2022/07/07/صورة-أبدية-على-حائط-عالم-ليس-لنا


في إحدى رسائله لعبد الرحمن منيف، في عام ١٩٩٤، كتب مروان قصاب باشي لصديقه عن اللوحة والكلمة فقال: "تحويل اللوحة إلى كلمات مصيبة، تحويل الكلمات إلى لوحة مصيبة أكبر[1]" في محاولة للتعبير عن صعوبة الكتابة عند مروان، واللغة الخرساء التي تاه فيها حين حاول أن يعبّر. وليست هذه الصعوبة قاصرة على مروان الفنان التشكيلي، بل على الكتّاب في كثير من أحيان الكتابة والتشكيل اللغوي الذي يحاولون تركه للعالم.


أفكّر في هذه الفرضية التي يضعها مروان لنا، وأفكر بالوجوه العجيبة التي يرسمها وبالذهول الذي أصابني أمام أحدها، وأدرك فعلاً أنّ محاولة وضع اللوحة في كلمات هو أمر لا يضاهيه في المجاز شيء. لكنّني أحاول أن أسحب هذه النظرة عند مروان من سطح اللوحة إلى سطح الصورة الفوتوغرافية. فهل يمكننا أن نقول أنّ نقرأ الصورة الفوتوغرافية كما نقرأ النصّ؟ أو أن تحويل الصورة إلى كلمات هو المصيبة الكبرى؟


تكمن المفارقة هنا في المجازي والواقعي، وما بينهما. إذ تلعب المسافة بين الواقع والمجاز دوراً رئيساً في التفريق بين اللوحة والصورة. على أنّ كلا الصورتين، تحمل عناصرها الفنية الجماليّة والفنية. لكنّ ما نراه في الصورة الفوتوغرافية، ليس ذكرى أو خيالاً، وكذلك ليس إعادة تشكيل ماديّ للواقع، بل إنّه كما يصفه رولان بارت في كتاب الغرفة المضيئة، هو الواقع في حالة الماضي، وهو الماضي والواقعيّ في نفس الوقت[2]. وبهذا فإنّ الصورة، تفرض على قارئها فكرة راسخة حول حقيقتها، لا يمكن أن يطرحها الرسم، ولا أن تستحضرها الكتابة. ولا أعني بذلك أن ما تطرحه الصورة هو عين الحقيقة، بل أعني أن للصورة حضورها الفوريّ في العالم، إذ علينا أن نقبل سلفًا حين ننظر إلى الصورة الفوتوغرافية، بتصديق ما تمثّله. وهذا هو جوهر الصورة الفوتوغرافية كما يشير بارت في كتابه[3].


قادتني صورة غسان كنفاني التي تتبادر إلى أذهان الجميع عندما نفكّر فيه، إلى التفكير في قوة هذه الصورة الحاضرة الراسخة حضور اللحظة الآنية في العالم، تلك الصورة الشهيرة التي اقترنت باسمه، واخترقت كل ذهن وخيال، تلك الصورة التي نفكر بها معاً. كلنا في نفس اللحظة. الصورة التي امتزجت بين ما نستطيع تخيله عن غسان وبين ما كان يفعله في تلك اللحظة. إذ كيف يمكن لهذه الصورة الفوتوغرافية أن تختزل تجربة هذا الكاتب الذي جرّب أن يكتب المسرح والرواية والقصة، بدون أن تقول كلمة واحدة.


في قصة (البطل في الزنزانة)، من مجموعته القصصية "القميص المسروق" يخبرنا غسّان عن أحد أسرار كتابته للقصة، المتمثلة في كتابة ما يحترم البطل والحادثة، دون أن يزيد عليها وينقص. وكأنه يواجه ألسنة النقاد وقتها من خلال السرد ذاته، حيث يدافع عن أهمية عدم تغيير الحوادث أمام ما يسميه الآخرون بالبناء الفني:


"ولكي تكتب عن هذه الحادثة نفسها قصة ناجحة يقول عنها النقاد إنّها "مكتملة البناء الفني" فكيف ستتصرف يا ترى؟ وهل تجيز لنفسك أن تغيّر الحوادث التي ووقعت، أو تضيف عليها حوادث جديدة كي تنسجم مع ما يسمونه "البنيان الفني للقصة"؟ وإذا أجزت لنفسك ذلك، فهل تعتقد أنك تكون في مستوى القضية التي تعذب البطل من أجلها؟"


يحاول غسان في هذه القصة التي تتحدث عن القصة، أن يلتقط لحظة القصّة نفسها، ويثبّتها كما هي، دون زيادة أو نقصان. ولذلك يصرّ على ترك بطلها في الزنزانة دون أن يغيّر مصيره أو يعبث به. هكذا تماماً كما كانت أم سعد حقيقية في كتابته عنها، وكما كان (أبو إياد) حقيقياً في فيلم مهدي فليفل (عالم ليس لنا، 2012) الذي صنع فيلمه بنفس الأسلوب الذي يخبرنا عنه كنفاني ويحاول تحقيقه. وقد أراد غسان كنفاني من خلال هذه القصة أن يخبرنا عن إيمانه بالتقاط الحادثة كما هي، كما تلتقط الصورة اللحظة كما هي:


"إنّ أصعب ما في كتابة القصة هو التخلص من ذلك الافتعال، {..} الافتعال اللزج الذي يثقل طبيعة القصة ويعرقل انسياب حوادثها"




قد تذكرنا الفوتوغرافيا بالماضي، قد تدفعنا إلى لحظة من حنين، لكنّها تختلف عن التاريخ الذي يدفعنا نحو فخّ إمكانية إرجاع ما تم محوه، بالزمن والمسافة. أمّا الصورة الفوتوغرافية، تثبت لنا دائمًا، أنّ ما نراه الآن، قد وجد بالفعل[4]. أنّ هذه اللحظة الملتقَطة بين جدران زنزانة هذه الصورة، هي لحظة واقعة. هي لحظة كانت بها كل عناصر الصورة موجودة في واقع ماضٍ. أي إنها حدثت. وهذا ما يدفعنا إلى الدهشة ربّما، إلى هذا الشعور الذي يسحبنا من اللحظة ذاتها نحو الصورة فقط.


ليست مهمة الصورة الفوتوغرافية، كما يشير بارت، أن تقول ما لم يعد كائناً وموجوداً، ولكنّها حتمًا تشير إلى ما قد كان موجوداً. لا تهتم الصورة بغياب ما ومن فيها، بل تهتم بأن تقول لنا أن ما ومن فيها، قد كان موجودًا فعلاً.[5] وهكذا فعلاً، تظلّ هذه الصورة الأثيرة، والعابرة لحدود لحظتها ولكل قوانين اللون، والضوء والتصوير، تظلّ صورة غسان كنفاني، حاضرةً في مخيالنا الأدبيّ والإنساني، كأنّها أقوى نصوصه (التي آمن كنفاني فيها بنفس فكرة الصورة التي تستطيع أن تثبت ما قد كان فعلاً لا ما لم يعد كائناً) بل هي نصّه الخالد دوماً، وهي الصورة التي لا يمكن للعبوة الناسفة أن تمحوها، ولا للسجن أن يحبسها. إنّها ما قد حدث فعلاً. وهي القصة التي لا تمزقها الترجمة ولا تطعن بجمالياتها اللغات الأخرى. وهي الصورة التي استطاع غسان بها أن يأخذ مساحته الشخصية على حائط هذا العالم الذي لم يكن له يوماً، ولم يكن لنا، ولكنّه كان لصورنا الفوتوغرافية، وصور من سبقنا. وبهذا تكون الصورة ذاتها -صورة غسان كنفاني- محاولة ناجحة في استرداد القميص المسروق، إنّها إقرار غسان نفسه بأن هذه القصة ستنتهي كما "ستغرب الشمس اليوم على طرف الخليج، مثل كل يوم" وبأن "الوضع الهزيل القائم سيتهاوى لا شكّ، وسيخرج رياض من السجن مع زملائه الأحرار، وسينغمس مرة أخرى في مشاغل القضية التي آمن بها، وتعذب من أجلها" (البطل في زنزانة، القميص المسروق)


أما الناظر إلى الصورة، فقد بقيت له، كما كانت رسالة مسعود لصديقه في مجموعة غسان القصصية "عالم ليس لنا"، رسالة من عالم آخر. من لحظة آخرى. تفوق في حضورها، قوة النصوص المتروكة، والرسائل المكتوبة. وكذلك بقيت الصورة للآخر الذي يريد أن يقتلها دائما، وأن يقتل من يأخذها ومن سيراها لاحقاً.


وأخيراً، تظل هذه الصورة، بالنسبة لي، لغزاً لا أعرف كيف أعبّر عنه باللغة الخرساء التي تحدث عنها قصاب باشي، ولا أعرف سبب عبورها دون غيرها، وثبوتها جنباً إلى جنب، مع قصص المصور الماهر غسّان كنفاني. إلّا أنني لا أشك أنها ذاتها التي نفكر بها الآن كلنا.

[1] عبد الرحمن منيف ومروان قصاب باشي، تقديم: فواز طرابلسي، في أدب الصداقة، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2012) 21. [2] رولان بارت، الغرفة المضيئة تأملات في الفوتوغرافيا، ترجمة: هالة نمر، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010) 76. [3] نفسه، 79. [4] رولان بارت، الغرفة المضيئة تأملات في الفوتوغرافيا، ترجمة: هالة نمر، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010) 76. [5] نفسه، 79.

3 views0 comments
Post: Blog2 Post
bottom of page