- mwaffahajjar
قراءة ثالثة

من أُقفل بالوجد وضاع على أرصفة الشام سيفهمني
(مظفّر النّواب)
يؤسفني أن أتذكر كل ذلك. لكنّ ذاكرتي التي تنسى أسماء الناس ومواعيد الدواء، ومهام العمل المتكررة، تستطيع أن تتذكر كلّ ما يؤلمها ويحملها على التفتت، فقط. ذاكرتي التي لا تريد أن تلتقط سوى، ما كوّن داخلي هذه الروح الزجاجية الصلصال، الهشّة، المحزونة، الروح التي تجعلني أتمشى شارعين لأني أشم وجود ياسمينة في نهاية الطريق، تصرُّ على أن أتذكر.
يؤسفني إذن، أن أتذكر، هذه اللحظات الثقيلة، التي لا شكّ نشترك بها أنا وأنت، اللحظات التي تعلّمنا بها الأسماء كالأنبياء.
اللحظات الضياء، التي تدفع الوعي نحو الجنون لاحقاً. لأنها اللحظة التي تمنح الحريّة، وتمنعها كذلك.
يتعلم الواحد منّا القراءة، في دمشق، (كما يتعلّم الواحدُ القراءة في مدن الآخرين) مرّتين. مرة لقراءة الأحرف؛ نتهجى، مبتدئين بأسمائنا، وأسماء آبائنا، حرفاً فحرفاً، نرسمها حروفاً منقّطة، منفصلة، ومتصلة، نلعب بها كما يريد المعلم لنا، نربطها ونفصلها ونجمع بينها لتصبح مفردات بسيطة، مفردات صارخة، ذات معانٍ ثابتة وأصيلة. معانٍ كبيرة وصغيرة، ماما، بابا، شجرة، سوريا. كلمات صغيرة بحجم القصيدة التي لا تنافس الرواية. نتهجّاها، ثم نتمرس قراءتها، ثم نكتبها. بكل بساطة.
ومرةً أخرى لقراءة الأرقام، نرسمها، دون أن نعرف هويتها، نكتبها كأنها الحقيقة الواضحة، ١، ٢، وغيرها من الأرقام التي نحسّ أنها واحدة في كلّ مكان، ونخذل حين نعرف أنها تختلف في اللغات. نربطها مع المفردات، مع النقود؛ نفهم النقود، نمارس فعل التعداد، يصيبنا الهوس، نعدّ كل شيء، نحاول أن نمثلها بأصابعنا التي تحبّ أن تصيب الحقيقة. نفعل كما يفعل كل الناس في كل مكان. نتهجّى ثم نتمرّس، ثم نعدّ. بكل بساطة.
لكنّ مرّة ثالثة، لا يعرفها الناس سوى من "أُقفل بالوجد وضاع على أرصفة الشام"؛ مرةً ثالثةً موجعة، نتعلّم بها أصعب أفعال القراءة الممكنة، يحرص آباؤنا على تمريرها لنا، كأنها الحكمة المقدسة، كأنها السبيل دائماً، لنا ولمن بعدنا. تكسرنا هذه اللحظة، كما تكسرنا حقيقة الكلمات التي لا معنى لها، أو الأرقام التي لا نملكها ولا نصل إليها. تكسرنا هذه القراءة، كما تكسرنا أصوات أجدادنا الراحلين. تجرحنا كما يجرح العشب صمت الحجر، تنزع أرصفة قلوبنا كما تنزع أشجار الكينا أرصفة المدن.
هناك من علوٍّ سماويّ، كنّا نقف معاً، سوريون كثيرون، نقف، كما وقفت هذه البلاد وحدها من قبل، ونراقب الأحلام والكلام والأضواء، نقرأ كيف تستطيع هذه المدينة المأزومة النجاة، ونعجب لمفاتيح أبوابها الضائعة، هناك فوق قاسيون البنّيّ الشاهق، حيث تصبحُ الهويّة، هاوية، والهاوية هويّة. هناك تعلمت القراءة التي يتعبني غيابها دوماً. هناك تعلمنا أن نتهجّى المدينةَ حيّاً فحيّاً، زقاقاً زقاقاً وشارعاً شارعا. هناك تعلمنا أن نقرأ المدينة التي لا شيء خارجها، ولا شيء فيها، المدينة التي أصبحت طِرسَاً لكثرة من كتب. نقف أمامها كما يقف الناقد أمام النّص، باهيةً ناصعة، كتلةً واحدةً، عصيّة على الشرح، وعلى التأويل، نصّاً صوفيّاً في بعض أحيائها، أرضيّاً في أخرى، نصّاً نثرياً في شوارعها العليا، شعرياً في شوارعها الدنيا، نصّاً بدون جنس أو بدون شكل.
كنّا من هناك، نتهجى الشوارع والمدينة، نتوجس معناها، نحاول أن نحاورها، نمسك بشوارعها، نلتقط بيوتنا الصغيرة، كما كنّا نلتقط الميم الألف الميم الألف لنصرخ، ماما. نلتقط الجامع الأمويّ الكبير، كما كنّا نعرف الرقم ١٠، نمشي منه إلى أحيائنا الكثيرة المتشعبة. نمسك باتستراد المزّة، لنقرأ الجامعة، ونفهم داريّا، ننتبه إلى كل ضوء، لنعرف أين قدسيا، نبحث عن بيوت أصحابنا، عن طرقنا التي نحبّ، عن بيت حبيبتنا، عن بيتنا المستقبليّ الممكن. نتهجّى هذه المدينة، وأحلامنا، كنّا، كما لم يفعل أحد آخر في مدن أخرى.
والآنَ في مدن الآخرين الجميلة والبهية، يؤلمني أو يؤسفني أن أتذكر هذه القراءة الغائبة، والتي لم تعد ممكنة. نمشّط المدن الأخرى، كما فعل شوقي بزيع:
" زقاقاً زقاقاً
نقلّب أرض المدينة
أو نستقل صباحاتها
وهي تنهض مثل الدمى
فوق ساقين من معدنٍ ودخانٍ
لندفع من خلفها عجلات الكلامْ"
(شوقي بزيع، مدن الآخرين، 2010)
نقرأ لغات جديدة، لا تمنحنا سوى الأخبار المخيفة لنقرأها، نقرأ نقوداً جديدة، لا نحصل عليها سوى بعد أن نرمي أصابعنا التي تحب أن تصيب الحقيقة للغول الذي يربيه الناس ليأكلنا، نتهجى أو نحاول أن نمشي بشوارع جديدة، أو لا نمشي بشوارع أصلاً، لأننا مقعدون في كراسٍ جديدة، كراسٍ من الخذي والعار، صنعها لنا أهلنا في المدن الجديدة، كراسٍ من الخوف والقلق، كتب عليها تاريخ إقامتنا وانتهاء جواز السفر، وجواز العبور، وجواز البقاء، كراسٍ من الشلل، مبنية من قيود البنوك وتقييد الحركة الليلية، كراسٍ رُسمت عليها أسماء آبائنا المجرمين، كراسٍ لا تيأس من طردنا منها، وهي مطبقة على أفخاذنا العظمية، كراسٍ مسروقة من متاحف العذاب البشري الطويل، أقعدونا بها. كيلا نمتلك القدرة على القراءة. أو على الحياة.
أيّ بحرٍ إذن
سيقوّس سيقان أمواجه كالزهورِ
لنرفع، نحن قراصنة الوقت،
أعمارنا فوقه مثل ساريةٍ لا تلين؟
أّيّ منفى سيمنحنا فسحةً للإقامة؟
نحن الذين سنبقى إلى أبد الآبدين
ضيوفاً على الصمت، أو بدلاء عن الخوفِ
في طرق زينتها لنا هفوات الحقيقةِ،
أو نزلاءَ على مدن الآخرين.
(شوقي بزيع، مدن الآخرين، 2010)