top of page
Search
  • mwaffahajjar

قصّةٌ واحدةٌ فقط



عاد من غيابٍ طويل عن كل وسائل التواصل الاجتماعي، وبعد عناء سفر طويل. جلس إلى مكتبه القديم، حيث كان يكتب للنّاس كلّ يوم. شهيقٌ وزفير. فتح حاسبه الشخصي، نظرَ إلى كأس القهوة قربه. وقال في نفسه: لا بدّ من كتابة ذلك. لا بدّ لهم أن يعرفوا! فكتب:


"مرحباً أيّها الفيسبوك الكبير، مرحباً أيها الساكنون والمتحركون فيه، لقد عدت لكي أحكي لكم قصةً واحدة فقط.

قصةً هائلةً، حملتُها لعدّةِ سنواتٍ بينَ يَدي، وركضتُ بِها من مكانٍ إلى آخر، كانتْ كبيرةً بالحجم، وعريضةً بالمساحة. تبلغ مساحتُها -تقريباً- مساحةَ ٣ بلدان رئيسية (مثل: بلدِ النشوء، بلدِ اللجوء، بلدِ الهدوء). أمّا قوامُها، فهو قوامٌ شعبويٌ، عامٌ، مثلُ مذاقِها الشعبويّ الذي يختزل معظم أكلاتِ الشارعِ المحليّ فيه. إنّها قصّةٌ هائلة. وما عدتُ إلّا لأنّني مكلّفٌ بقصّها ونسخها ونقلِها لكم.


أخبرتُ حبيبتي عنها، فقالت إنّ أهلَها لا يحبّونَ القصصَ الطويلةَ، وإنّها لذلكَ ستُفضّلُ أنْ نَختصرها قليلاً.

لذلك رميتُ مقدارَ ٣ سنينٍ منها، في نهرٍ كبيرٍ يمرّ من أعلى القصّة إلى أسفلها. نهر النسيانِ الأعظم، وهو أعظم نهر مَرّ في تاريخ هذه القصّة. كلُّ الأنهار الأخرى جفّت إلا هذا النهر. لا يجفّ ولا يخفّ! أخبرتُ حبيبتي بذلك فقالت: نحكيها لهم إذن.


لكن هل عالجت القصّةَ جيّداً قبلَ مجيئك بها؟ هلّا -يا حبيبي- تفعل ذلك؟ عالجْها، نقّحْها أيضاً. تعرفُ، أهلي لا يحبّونَ الأخطاءَ التي تنمو على طرقاتِ القصص. قلتُ حسناً أفعل ذلك. فقالت لا تنسى كذلكَ أن تمنحَها اسماً أو عنواناً بطولياً و"ملحمياً" يشبه الملاحم الكبرى! حاولتُ أن أشرحَ لها أنني لا أعرفُ كيف تُعنوَنُ الملاحمُ، فنحنُ لا نملك ملحمةً واحدةً مثل الآخرين. ثمّ مَن قال إنّه يجب على عنوان القصةِ أن يكون ملحمياً؟ قالت لا أعرف، لكنّ الجميع يحبّ العناوين الملحمية.


ذهبت حاملاً القصّة إلى فضاءٍ جديد، أبحث عن صانعِ ملاحمٍ واحد، كي يشيرَ إليَّ ما يجبُ أن أفعل كي أمنحها عنواناً ملحمياً. كان هذا الفضاء الجديد شديدَ الخضرة، غزيرَ الماء، وفيرَ الشمس. بحثتُ فيهِ عن صُنّاع الملاحمِ فلم أجدْ أحداً. قِيلَ لي أنّهم يصنعون الشايَ بالحليب في أغلب أحيان القصص هنا ولا تهمهم الملاحم. ولكنّ لهم قصةً طويلةً يمكنك أن تطّلع عليها. أخبرني ذلك رجلٌ مجازيُ اللحية، وأنفُه مفلطحٌ. وشارباهُ مسترسلان في الحديث. تَبعتُه ودرستُ القصّةَ معَه. كان عنوانُها لا يشبه محتواها. قال لي هل فهمتَ الآن؟ قلتُ فهمت.

مضيت عائداً إلى فضائي السابق، وكانت القصة معي قد أعياها التنقّلُ الكثيرُ والشمسُ التي تضربها مُذْ هبطنَا في هذا المكانِ الجديد. قلتُ لحبيبتي لقد عَرفتُ كيف سأصنعُ عنواناً ملحمياً للقصّةِ، لا تقلقي. كنتُ أكذب، لقد كذبتُ عليها مرتين فقط، الأولى كانت تلك. والثانية لم تحدثْ بعد.

على العموم، لا يسعني أن أحكي القصّة لأهل حبيبتي فقط، بل يجبُ أن أنقلَها لكم هنا، لأنكم جميعاً موجودون فيها. كلُّ واحدٍ منكم يلعبُ دوراً صغيراً في قصّة هائلةٍ كهذه، ولا بدَّ أنْ أخبرَكم بأدواركم كي لا تخطئوا لاحقاً في حواراتكم الكبيرة التي تحتويها القصة. وبما أنني أذكر الحوارات الآن، يجبُ أن أنوّه لكم أن حواراتكم كبيرة جداً، لكنّكم -في القصّة- كلَّكم بكمٌ. لا تستطيعون نبسَ بنت شفة. إنَّما تمتلكون لوحةَ أحرفٍ كبيرةٍ موشومةٍ على بطونِكم. وكذلك يوجدُ ضحكاتٌ ودمعاتٌ وقلوبٌ متروكةٌ في راحاتِ كفوفِكمُ اليُمنى واليُسرى. لذا يمكنكم استعمالَها كلّها.

على كلِّ حالٍ، فقد عدتُ كي أحكي تلك القصّةَ لَكم، لكنّ الرحلةَ لم تكنْ سهلةً أبداً. لقد اضطررتُ إلى بيعِ وجهي، لامرأةٍ غنيّةٍ تجمعُ وجوهَ المعزولينَ وتضعُهم في لوحاتٍ كبيرةٍ في صالون بيتِها الريفيّ. تزعم هذه المرأة إنّها تجمعُ وجوهَ الشّعراء! حينَ أخبرَتْني بذلكَ شعرتُ بالمديحِ الباطنيّ، فوافقتُ على بيعِ وجهي مقابلَ لقبَ الشّاعر. لكنّها منحتْني امتيازاً جيداً. قالتْ: ستظلُّ تشعرُ بوجهكِ كما لو أنّه موجود. فعلاً أحياناً أشعر بالحرارة على وجهي تنطلق من مدفأتها، وأحياناً أخرى أشعر بأصابعَ خشنة جداً تنساب على وجهي لعدة ثوان ثم تتركه. أحس دائماً بالحكّة، هذه الحكّة المزعجة عند الجهة اليمنى من لحيتي قرب غمازةٍ صغيرةٍ تختبئ تحتَ اللحية. هذه الغمازةُ حفرتْها أمّي مرةً حينَ كانَت توبّخُني لأنّي أخطأتُ في إعراب الفاعلِ في جملةٍ طويلةٍ جداً تحتوي على كلِّ التراكيبِ العربيةِ الممكنة.

لقد عدتُ كما أخبرتكم، كي أحكي لكم تلك القصّة الهائلة. التي حملتها بين يديَّ وركضتُ بها من مكانٍ لآخر، وكنتُ سأحكيها رغم أنّ فمي ليس معي. لكنّ ما حدث معي صباحاً، كان استثنائياً. اليوم صباحاً، لقد استشاطَت كلماتُ القصّة غضباً وبدأت تصرخُ كلّها، صارت الجملُ تتدافعُ لتصرخَ بصوتٍ واحد. موجاتٌ ضخمةٌ من الصوتِ تسافرُ في الغرفة من مكانٍ لآخر تنفجر غضباً، تصرخُ تصرخُ تصرخُ تصرخُ.


كدتُ أُجنّ! فتحتُ النوافذَ والأبوابَ كي أخفّفَ وطأةَ الضجيج. فتسرّبتْ كلُّ الكلماتِ، وتحرّرتْ من الجمل، وتحررت الجملُ من السياق، والسياقُ من المعنى. وبدأوا يهربون جميعاً من الغرفة. حاولت أن أنقذ ما تبقى ولم أستطع سوى أن أبقي على جملة واحدة صحيحة."


أغلق حاسبه، ونظر إلى كأس القهوة الفارغ قربه. ثم خرج.



5 views0 comments
Post: Blog2 Post
bottom of page