top of page
Search
  • mwaffahajjar

كيف أحزم أمتعتي باللغة العربية

Updated: Jan 20, 2022





(التخلي جزء من الاكتساب)


جالساً وأمامي خمس حقائب، وأكياس وصناديق كثيرة.


إنه وقت الرحيل، ليس رحيلاً نهائياً ولكنه رحيل شتوي، وإن غاب الشتاء في هذه الجزيرة البعيدة عن بلادي.


خمس سنوات، أبحث فيها عن الرحيل الأخير الذي لم يأتِ بعد، ولا أعرف إن كنتُ أريد هذا الرحيل فعلاً.


الرحيل إذن، هو من دفعني للكتابة. لكنّ ما قبل الرحيل تماماً هو ما دفعني للمشاركة، ولتسجيل هذا الكلام الذي لا أعرف إنْ كان نصاً أو لا نصاً أو أنه مجرد كلام أشاركه مع جدران الفراغ حولي وأنقله إليكم. وهذا النص أو اللانص كما يريد عبد الفتاح كيليطو له أن يكون، يحاول أن يساعدني على تحديد مكامن الثقل والخفة في هذا الأسبوع أو الشهر أو السنة.


قبل سنة من اليوم، قابلت شاعراً مقدونياً يدعى نيكولا مادزيروف، لم تكن فكرة مقابلته لمحمود درويش سابقاً هي الفكرة الأجمل في لقائنا، لكن ربما كان ما حدثني عنه حول اسم عائلته، حيث أخبرني أن مادزيروف هذه جاءت من العربية، حيث كانت المهاجروف، وأخبرني أنه مهاجر دائم مثلي. والآن أتذكر بيت شعرٍ حفظته له يقول فيه:


بعيدة تلك البيوت التي أحلم بها. 


وكذلك أعرف أن كل تلك البيوت التي أحلم بها، بعيدة. وكل الأصوات التي أريد سماعها بعيدة، وكل الوجوه التي أريد تقبيلها بعيدة.

الحقيبة.

استعارة المكان من حولي الآن. ما هي الحقيبة وكيف لي أن أضع نفسي في حقيبة، أو في حقائب. لقد جئت إلى هذه المدينة بحقيبتين. والآن عندي خمس منها. لم يكن قدومي إلى هنا هو الرحيل الأول، فقد خرجت من منزلي قبل أن تخرج الحرب من منزلها كذلك. خرجت للدراسة في مدينة أخرى وكانت حقيبتي صغيرة، كان ممكن لي أن أختصرها في حقيبة ظهر أسبوعية آخذها معي من مدينة دراستي إلى مدينة أهلي. وكنت أضع فيها صوت أمي، كلام أبي وصراخ أخي، بالإضافة إلى دخاني، وديوان شعر واحد، ومجموعة كتب جامعية وهويتي الشخصية.


لكن الحقيبة ذاتها صارت أكبر بعد سفري من مدينة دراستي ومدينة أهلي وبلادي، تحولت إلى ثلاث حقائب، واحدة منها تحتوي آلاف الكلمات، وعشرات أسماء الكتّاب، لقد كانت مكتبة كاملة. ليست كاملة تماماً. تركت ما تركت من مكتبتي في بيت أعرف أني لن أراه لاحقاً وأخذت معي ما استطعت من الكتب التي لا يمكن لي أن أعتبر المكان لي بدونها. وهكذا على مدار خمس سنوات في بيتي الجديد، نمت أنا وكتبي في مكان واحد، وتنفسنا الأوكسجين ذاته تقريباً وضايقتنا الحشرات ذاتها تقريباً وتعاملنا مع العناكب ذاتها تقريباً. لقد كانت الألفة بيننا أكبر من أن تختصر في رفوف.


قبل عدة أشهر، اشتريت رفوفاً حديدية للكتب. كل ما في هذه البلاد حديدي وأخضر. كنت أشعر أنني أبني بيتي الأول، لقد اشتريت الرفوف الأولى وملأتها بكتبي أنا. كتبي الخاصة التي تكاثرت في هذه البلاد، وأحبت كتباً أجنبية واصطحبتها معها إلى البيت. والآن أضعها كلها في حقيبة. حقيبة تمرين رياضية. كان يأخذها أبي معه إلى التمرين. وكنت أضع بها زجاجة مياه وبشكير وكرة ونلعب أنا وأصدقائي. لعبة الهويات القاتلة التي تحدث عنها معلوف.

ناظراً إلى هذه الحقائب، أتذكر ما قاله كيليطو عن ادوارد سعيد وفكرة الحقائب الكبيرة التي كان مهووساً بها سعيد، إذ كان يحمل معه كل شيء أينما ذهب.

ادوارد سعيد، بدور الحمّال، حمّال الكلمة، والحقائب، والهوية. فكما كان لابن رشد بعد موته أن يعود إلى مسقط رأسه محمّلاً على ظهر دابة مع كل كتبه من جهة أخرى. صرنا اليوم جميعاً حمّالي حقائب تعادلنا تماماً.

كل واحد فينا يحمل وطنه في حقيبته/ أو حقائبه.

كل واحد منّا يحمل هويته في حقيبة.


الهوية.

تدور برأسي أفكار كثيرة، حقيقة أنا أحب حالة ال.. لا أعرف كيف أسميها بالعربية، ولذا سأختار الكلمة التي قلتها اليوم لصديقي الإيراني حين سألني ماذا تفعل: فقلت I'm packing.

(پاكينغ). يعني أكدس الأشياء، أكدس مشاعري وأفكاري بحقيبة. وأكدس خمس سنين من الذكريات القاسية والجميلة في حقيبة. التكديس.

أحب تكديس الأشياء وأحب لذلك المكدوس أيضاً.

ولا شكّ أنني سأقضي الليلة باحثاً عن مصطلح ينفعني في لغتي التي يتجادل الناس حولها في هذا اليوم من السنة. اللغة الأعظم أم اللغة الميتة؟

لكنني، لا أهتم لكل ذلك لأنني أحبّها وأؤمن بها، أؤمن أنها ذاتي وهويتي، وقد ضاع مني وطني، وضاعت مني مفاهيم كثيرة. لكنها وحدها لا تضيع. لغتي حمّالة الماضي وتعريف الهوية للغريب. ولا أريد أن أقول إنني أحزم حقائبي. فأنا لم أحزمها بعد ولن أحزمها كذلك. لكنّي أعرف أن حزم المتاع هو الفعل المماثل لـ "پاكينغ".


أعود إلى نيكولا مادزيروف. الذي قال لي في ذات اللقاء، أنه عليّ أن أتعلم أو أتمرس فعل التخلي. فأنت الآن -قال لي- على متن منطاد الغربة، لن تعود أبداً، إنك تطير معلقاً في الهواء وكلما ارتفعت أكثر، كان عليك التخلي عن شيء ما.

اللعنة يا نيكولا. أذكرك منذ الصباح الباكر وأنا أحزم أمتعتي كلما قلت لنفسي: تخفف يا موفق. تخففْ. أَرمي الأشياء، أتخلص من بعض الملابس، من بعض القصائد غير المكتملة من بعض الكتب غير المهمة، من بعض التذكارات التي أهداني إياها كل الغرباء الذين قابلوني هنا ثم رحلوا.

أتخفف من نفسي فعلاً. لكني لا أعرف إن كان ذلك يا نيكولا ضرورياً، وكنت قد شعرت بالحزن لفكرة أنني سأتخلى عن كتبي التي ربيتها هنا وعشت معها هنا في سبيل التخفف وفكرت أن أحرقها، فأستفيد من نارها في رفع المنطاد نحو السماء أكثر. إنها السخرية يا نيكولا. لقد تخلصنا من وطن كبير جداً من مدن كاملة، لكننا لم نتخفف أبداً بل صرنا أكثر ثقلاً وصرنا أكثر وزناً فكيف لنا أن نطير.

هذه الرحلة التي مررت بها خلال هذين اليومين في حزم الأمتعة، هي الرحلة التي مررت بها خلال خمس سنوات مع الهوية الكبرى، مع لغتي المتهمة بالإرهاب والتدني والتخلف، مع بلادي المحرمة. كان عليّ أن أتخلص من مفردات كثيرة، ومن ذكريات كثيرة ومن أشخاص كثر.


ترجمة

والآن مرة أخرى يضربني التخلي في صميم هذا الانتقال الجديد، نحو منزل جديد، أي نحو فضاء جديد، ومطبخ جديد، نحو ماء صنبور جديد، وشرفة جديدة، وسماء جديدة ومنظر جديد، وطيور جديدة.

هذه الغرفة التي عشت فيها معظم حياتي في هذه الجزيرة البعيدة عن بلادي، كتبت فيها درست فيها، عملت فيها، شاهدت التلفاز فيها وأحببت كذلك فيها. فضائي الخاص الذي بنيته كوكباً كوكباً ونجماً نجماً، كنت أحرق الهيدروجين ليلاً وأصنع الأوكسجين نهاراً. كنت أدرب نفسي بها على الوحدة واللغة. فكيف أرميها من المنطاد بهذه السهولة؟


أشعر أنني أقوم بفعل الترجمة، أترجم هذه الغرفة، أو أترجم ممتلكاتي فيها نحو لغة جديدة، أنقلها من ترابها الرطب نحو تراب جديد، أحمل ما أستطيع على حمله وأرمي ورائي ما يتعذر على ترجمته. إنها الترجمة فعلاً. يالغتي الجميلة التي يخافها الأصدقاء قبل الغرباء. إنني أترجم نفسي. ولكنّ بعض الشعر يضيع على طريق الترجمة ولذا كان علينا جميعاً قبل أن نتهم اللغات أو نتهم الحقائب أو نتهم المناطيد في الأجواء، كان علينا أن نقتني معجماً للمتعذر ترجمته، وأن نفهم أن التخلي جزء من الاكتساب.



موفق الحجار

كوالالمبور- نهاية ٢٠٢٠


24 views0 comments
Post: Blog2 Post
bottom of page