- mwaffahajjar
ماذا لو كان لـ"بودريار" حساب على إنستاغرام -نافذة على الواقع الفائق-

أعرف الكثير ممن يمتلكون شخصيات افتراضية لا تمت بأية صلة إلى شخصياتهم على أرض الواقع.
لحظة!
كلمة الواقع مثيرة للسخرية فعلاً. ما هو هذا الواقع؟ ومن أي منظار نراه؟ أو من أنا وأنتم لنعرف ما هو الواقع؟
في عزاء الواقع/ بودريار
مات المفكر/عالم الاجتماع/ المنظر/ الفيلسوف الفرنسي جان بودريار قبل سنوات قليلة من ثورة المنصات الاجتماعية الكبرى، والتي ستبني بدورها عالماً جديداً وموازياً للواقع الذي كان قد نعاه بودريار. من الممتع ربّما أن نحاول تنبؤ ردة فعل بودريار اتجاه هذه المنصات الاجتماعية، هل سينشئ حساباً خاصاً به على فيسبوك؟ أو سيغرد على تويتر؟ هل سيكون له قناة خاصة به ولقاءاته على يوتيوب، أو هل سيشاركنا قصصه ولحظاته على إنستاغرام. يبدو السؤال بسيطاً، لكنّ محاولة قراءة رأي بودريار بالتكنولوجيا هو أمر غير سهل ولا يحمل نتائج بديهية واضحة.
لقد مات الواقع، أو هذا ما ظنّه بودريار، لكننا اليوم نعيش في برزخ جديد، في ما بعد موت الواقع ربّما، في وهم الواقع، أو في الواقع الفائق. هذا الواقع الذي يتنافس والوهم/الخيال على الغرابة. وكما يقول جان بودريار: بقدر ما تستحيل استعادة أو بناء مستوى مطلق ونهائي للواقع، بقدر ما تنعدم إمكانية "إخراج" الوهم. لم يعد الوهم ممكناً لأن الواقع لم يعد ممكناً[1].

من ديزني لاند إلى إنستاغرام
يقدم بودريار في كتابه المصطنع والاصطناع مثالاً عن فكرة الاصطناع التي عاشها ونعيشها اليوم، حيث يتحدث عن مدينة ديزني لاند الترفيهية، على أن الغرض منها هو تقديمها على أنها خيالية كي يعتقد الناس أن الباقي هو الواقعي. هي محاولة في تقديم ما هو غير واقعي، لدفع الناس بالتفكير بأنّ ما دونه هو الواقعي. تماماً كما في السجون كما يطرح بودريار كذلك، فالسجون تخفي حقيقة أن الاجتماعي بكامله هو المسجون[2]. أو كما يحدث في السينما ذات تجربة النظارات ثلاثية الأبعاد التي تجعلنا نعيش في كل ما هو غير واقعي، كل ما هو متخيل، كي نستطيع تعريف الواقعي من حولنا. لكنّ هذه العملية التي تقوم بها الحكومات أو السلطات أو غيرها إنما هي عملية تعمية[3]، غرضها إعادة توليد وهم الواقع. إنها محاولة جادة "لإنقاذ مبدأ وجود الواقع". إنّ ديزني لاند في المثال هنا، هو مكان لتوليد الخيال كما أنه تبعاً لبودريار مصنع معالجة نفايات، حيث يمكن "إعادة تدوير النفايات (الأحلام والاستيهامات- الخيال التاريخي والأسطوري للأطفال والكبار هو نفاية، إنه أعظم إفراز سام لحضارة فوق واقعية)"[4]، وبالتالي، فإن الناس هنا يستطيعون أن يعيدوا تدوير أحلامهم، أن يشكوا بكل شيء من حولهم، أن يهزأوا من لا واقعيته، وأن يَقنَعوا بسلام بأن الواقع يكون خارج أسوار ديزني لاند.
إنستاغرام ما قبل النوم (عادتنا السرية)
-دليلك لوحدة أفضل وأرق أقل قسوة-
في محاولة مقاربة لمثال بودريار عن ديزني لاند، يمكن أن ننظر إلى منصات التواصل الاجتماعي اليوم، كديزني لاند رقمية، كبيرة جداً ومسلية، هائلة في لا واقعيتها. وأنا هنا أحاول أن أشير إلى إحداها على سبيل المثال لا الحصر. فبالنظر إلى تطبيق إنستاغرام، الذي عُرف في بداياته كمنصة لنشر الصور فقط، وتحول لاحقاً إلى منصة لنشر الفيديوهات والقصص المصورة القصيرة[5] (أقصد هنا خاصيتيّ stories and reels)، ثم تحول إلى معرض أنطولوجي كبير يحوي في داخله كل ما هو غير واقعي من وجهة نظر بودريارية.
اعتمد مصممو هذا التطبيق على فكرة اللحظية والآنية في تسمية التطبيق، إنستاغرام، تتكون من كلمتين: Instant image +telegram وإن هذه اللحظية تشير إلى أنه سينقل للمستخدم لحظةً واقعية من لحظات مستخدم آخر. هكذا بدأ التطبيق كمحاولة لتوثيق الواقع أو لحظات من الواقع. وانفتح بعد ذلك على خصائص مختلفة. يكتب بودريار في المصطنع والاصطناع ما يلي:
" الناس لا ينظر بعضهم إلى بعض، ولكن هناك مؤسسات لهذا الغرض. وهم لا يقتربون بعضهم من بعض، ولكن هناك علاج اسمه بناء الملامسة والتقرب أو الاتصال. وهم لا يمشون، ولكنهم يمارسون رياضة الهرولة.. ففي كل مكان ثمة تدوير للكفاءات المفقودة أو الجسد المفقود أو المعاشرة المفقودة أو ذوق الطعام المفقود."
يمكنني أن أضيف على ذلك الآتي: الناس اليوم لا يعيشون، لكنهم يوثّقون عيشهم على شكل قصص مصورة على إنستاغرام. يبنون من هذه القصص واقعاً غير موجود، ويستخدمون التطبيق كمصنع معالجة نفايات. نفاياتهم الشخصية أي أحلامهم وتصوراتهم عن هذه الحياة. تقوم خاصيّة القصة المصورة stories/reels على تقديم فيديو قصير مع أغنية ما، قد تكون هذه الأغنية منتشرة بين جميع المستخدمين حيث يتنافسون في تصويرها، أو على القيام بتمثيل مقطع معين باستخدام الشفاه، أو بتقديم مشهد/ رقصة موحدة بين جميع المستخدمين. كذلك قد تكون القصة المصورة، نقلاً لحياة أحد المستخدمين المؤثرين (المشهورين) وروتينهم اليومي في منازلهم ومع عائلاتهم بتجربة مماثلة لفكرة تلفزيون الواقع.
تحيلني هذه الفكرة إلى ما قاله بودريار في تلفزيون الواقع، حيث يعتبر أن قشعريرة الواقع، أو جمالية الواقع الفائق، هذه القشعريرة الزائفة هي ما يدفع الناس للمشاهدة، إنّه التمتع بالاصطناع المجهري الذي ينقل الواقع إلى الواقع الفائق. ويشبهه هنا بحالة الأفلام الإباحية حيث الإغراء ما ورائي أكثر مما هو جنسي. كذلك الأمر مع هذه القصص المصورة في إنستاغرام فإن إغراء المتابعة، أو الحصول على قصص أكثر (كون القصة عبارة عن ١٥ إلى ٣٠ ثانية) يعطي المشاهد قشعريرة الواقع الفائق، إنها تحتوي على الفخ نفسه. فخ الإغراء (إمكانية الغيرية الراديكالية). وهنا أقتبس ما قاله بودريار في الإغراء:
"seduction is a more fatal game, and a more dangerous one too, which is in no way exclusive of pleasure, but is something different from jouissance. Seduction is a challenge, a form which tends always to unsettle someone in their identity and the meaning they can have for themselves. In seduction they find the possibility of radical otherness."[6]
إن هذه القصص، تعطي المشاهد حالة من القلق، قلق هوية وقلق معنى، قلق يدفعهم إلى مشاهدة المزيد، مشاهدة أو تخيل أنفسهم في احتمالات أخرى كثيرة ومواقف وأماكن وألوان وأجناس كثيرة. وبذا ينتقلون من الواقع إلى الواقع الفائق الذي يدّعي الحقيقة. إنه "المنحدر الذي يندمج فيه الواقع بالنموذج"[7]، حيث يصبح المشاهد هو النموذج نفسه، حيث يتحول المستخدم إلى منتج، إنه يتابع نفسه، أو بالأحرى، هو لا يتابع إنستاغرام، بل إنستاغرام هو من يتابعه. كما أشار بودريار "أنتم لا تشاهدون التلفاز، بل هو الذي يشاهدكم".
داخل المرآة
في حديثه عن الافتراضي (virtual)، يعترف بودريار أن التكنولوجيا توسطت كل شيء، لكنّه يتساءل ما إذا كانت ستساهم في نهاية العالم الحقيقي أم أننا نحن من نقوم بهذا اللعب. لقد دخلنا داخل المرآة، لكن هل ما هو خارج المرآة هو الواقع؟ وهل سنستطيع إيجاد طرق جديدة لوصف الواقع الجديد (داخل المرآة)؟[8]
كتبت من داخل المرآة، وسأشارك المقال في المرآة ذاتها. وسأراقبها في نفس المرآة. لكنني أتوق، كما يتوق أي ناظرٍ للمرايا والصور، أن أخرج منها.
المراجع باللغة العربية:
بودريار، جان. المصطنع والاصطناع، ترجمة: جوزيف عبد الله، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2008
بودريار، جان. الفكر الجذري أطروحة موت الواقع، ترجمة: منير الحجوجي، الدار البيضاء، دار توبقال،2006
المراجع باللغة الإنگليزية:
Baudrillard, Jean. “Passwords”, trans. Chris Turner, London, Verso,2003.
Foucault, Michel. “Des Espace Autres”, trans. Jay Miskowiec, The French journal Architecture /Mouvement/ Continuité, 1984.
[1] جان بودريار، الفكر الجذري أطروحة موت الواقع، ترجمة: منير الحجوجي، (الدار البيضاء، دار توبقال،2006 ) 39. [2] جان بودريار، المصطنع والاصطناع، ترجمة: جوزيف عبد الله، (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2008) 61. [3] نفسه 61 [4] نفسه 62 [5] ملاحظة: أقصد هنا خاصيتيّ stories and reels [6] Jean Baudrillard, “Passwords”, trans. Chris Turner, (London, Verso:2003) 22. [7] جان بودريار، المصطنع والاصطناع، ترجمة: جوزيف عبد الله، (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2008)83 [8]يمكن قراءة الفكرة في الاقتباس التالي عن بودريار: "But if our world is indeed inventing a virtual double for itself, we have to see this as the fulfilment of a trend that began long ago. Reality, as we know, has not always existed. We have talked about it only since there has been a rationality to express it, parameters enabling us to represent it by coded and decodable signs".