top of page
Search
  • mwaffahajjar

"مع وقف التنفيذ" .. سيرة ريف دمّر نفسه - (نشر على "فسحة")


رابط المقال على فسحة:

https://www.arab48.com/فسحة/بصر/صورة/2022/06/15/مع-وقف-التنفيذ-سيرة-ريف-دمر-نفسه-بنفسه#


في أحد برامج اليوتيوب الجديدة في رمضان في سوريا، تتمشى صحفيّةُ الوطن، (أي جريدة الوطن كذلك) في شوارع سوريا وأحيائها الفقيرة، أو في أسواقها الفقيرة، بين دمشق، وطرطوس وحماة واللاذقية وحلب.. وغيرها، لتطعم الفقراء، كأنها الأميرة في أغنية (كلما بشتقلك)، لفرقة "كلنا سوا" السورية، إذ "كانت تنزل من قصرا، تبرم تزور الفقرا". هكذا إذن، تبرُم هذه الصحفيّة الأميرة، لتفضح جرائم التّجار اللذين لا يلتزمون بأسعار التموين والمؤسسة الاستهلاكية. تناورهم تسألهم تخدعهم، تسأل بسرعة وقوة وشجاعة، تسأل كمواطنة طبعاً، لكنّها تحشر المايكروفون في أنوفهم وأفواهم، تصرخ بصوتها الذي يبحث عن العدالة، وبلكنتها الشاميّة الدراميّة، تحاسبهم في محلاتهم، لتصنع الفرح في النهاية، وتهدي الفقراء، ممن تختار، مقادير واحتياجات "طبخة اليوم" من رز ولحم/دجاج، زيت، وغيره. يشكرها الجميع وتنتهي الحلقة. إنّه برنامج حقيقي، يحاول أن يرصد أنفاس الشارع. وأن يصلح أخطاء التجار والغشاشين في أسواق هذه المدينة التاريخية.


كثيراً ما ترددت مقولة "هذه الدراما لا تشبهنا" في المواسم الرمضانية التالية لموسم 2011. دون أن يكون هناك قاسم مشترك بين تلك الأعمال المختلفة والمتنوعة الصادرة خلال العقد الماضي، والتي لا تشبهنا أو لا تشبه الدراما التي تعودنا عليها سابقاً. لكنّني لا أصدّق هذه المقولة بشكلها الحتمي، بل أحاول أن أفكّر بها، من خلال تفكيكها إلى أجزاء أبسط، أو من خلال تغيير السؤال وتحويره إلى: هل تشبه هذه الدراما، الدراما السورية القديمة؟ وبشكل آخر، يتضح سؤال (من نحن؟) مرةً أخرى ومتجددة من خلال (نا) الدالة على الجماعة في (لا تشبهنا)، فمن وراء ضمير (نا) الذي يختبر الدراما ويقيّم انتماءها.


أقوم بهذه المقالة بالنظر إلى مسلسل "مع وقف التنفيذ" من كتابة علي وجيه، ويامن الحجلي، وإخراج سيف الدين سبيعي، بوجود عدد من الوجوه "المعتبرة" في الدراما السورية، كغسان مسعود، شكران مرتجى، سلاف فواخرجي، عباس النوري وفادي صبيح وغيرهم. يطرح المسلسل حارة واحدة من حارات الجمهوية. تدعى بحارة العطارين. حارة خيالية طبعاً، لأنها كما يبدو من العمل منطقة ما في ريف دمشق، أي إننا في هذا العمل نتعامل مع أحد هوامش سوريا، وهامش مدينة دمشق الكبير؛ ريف دمشق. ويدلنا هذا التعامل مع ريف دمشق كمنطقة ومحاولة اختزاله بمفهوم الحارة على نوعية التهميش الذي يُمارس بحق هذا الريف. وكذلك يذكرني استخدام مفهوم الحارة هنا بالتعامل مع منطقة ريفية كبيرة، بمفهوم حارة (كل مين إيدو الو) من ذاكرة التلفزيون السوري، والذي يبدو أنهم أرادوها أن تبدو كذلك.


على العموم، ينطلق العمل من فكرة بسيطة، وهي فكرة الخروج والعودة. الحارة (قبل وبعد)، دون تحديد هذا الحدث الفيصل، حيث يفترض صنّاع العمل الاتفاق المسبق عليه في الذاكرة الجمعية للسوريين، يكفي إذن أن نكتب (قبل الخروج)، لنفهم معنى ذلك، أي قبل الكارثة وبعد الكارثة. لا يستطيع سيف الدين السبيعي من موقع الإخراج أن يستخدم كلمة الكارثة، لكنّه يشير إلى أنها كذلك من خلال أحداث وحوارات العمل. هكذا تفادى صنّاع العمل ورطة التسمية: الورطة التي نعرفها جميعاً.


يحافظ العمل على الطرح التقليدي في الدراما السورية لمناطق الريف الدمشقية، بالتركيز على الفقر والجهل كعوامل أساسية في هذا المجتمع، مع وجود طفرات اجتماعية تحاول تغيير الواقع من حولها. طرح كلاسيكي لكنّنا نرصد في هذا العمل إدخالاً لعناصر جديدة، لم يتم تجاهلها من قبل، لكن لم تلعب أدواراً رئيسة بهذا الشكل كما في هذا العمل.


يقدّم المسلسل هذه العناصر في فئة من فئات المجتمع السوري السنّي في الأرياف، مع التركيز التام على عملية استشراق ذاتية قائمة على المخيال السوري المتولد منذ ثمانينات القرن الماضي، حول العوائل (الإسلاموية) بالمعنى السياسي للكلمة. يأتي ذلك وفق سردية سورية اعتدنا عليها، تقدّم عائلة سنّية محافظة، بإسلام وسطي، عائلة متحررة "علمانية"، مثقفة، بمعايير أخلاقية مختلفة، عائلة سنّية متشددة، وربما بمذاهب سلفية ووهابية هذه المرة. وشخصيات أخرى ثانوية تندرج ضمن النسيج الاجتماعي غير المرئي عمداً. اعتمد مسلسل مع وقف التنفيذ، على هذه التركيبة في حديثه عن هذا الريف الخيالي المختصر بكلمة حارة العطارين، لكنّه لم يتناسَ الحديث عن المدينة ومركزها من خلال شخصيات معينة نكتشف أنها ذات أصول من حارة العطارين، وأنها مجرّد امتدادات اجتماعية لتلك الفئات سالفة الذكر. تأتي شخصيات المركز في فئات ثلاثة؛ فئة المعارضة وفئة التجار، وفئة الموظفين الفاسدين.





ينحصر المعارض السوري في ذاكرة التلفزيون السوري ومخياله، بصورة يسارية ميتة تنتمي للقرن الماضي لا تريد الدراما تجاوزها أو نسيانها أو الاعتراف بوجود غيرها، بهدف المحافظة على الثنائيات التي يمكن أن تتشكل عنها مع الدولة. وبصورة ساذجة وغير خلاقة، سيبقى هذا المثقف المعارض الذي يشرب كاسات العرق في ساعات الظهيرة في دمشق القديمة، ويستمع لزياد الرحباني ويتحدث كشخصيات أنطون تشيخوف، هو الشكل الوحيد للمعارض السوري (سيكون دائماً خائناً أو تائباً أو بصورة أفضل: خائباً) وهو الذي سيعترف نهاية الأمر بخسارته وبالورطة التي وضع نفسه وأهله وبلده فيها. في حين تأتي فئة التاجر كما دائماً، لتزيد الهوّة المصطنعة بين الريف والمدينة، الهامش والمركز، التاجر والموظف، (ولا أنفي وجودها لكن ألاحظ التركيز عليها دون تفكيك أسبابها)، فيكون التاجر دائماً متواطئاً فاسداً أو جاهزاً للفساد. وأخيراً تكون فئة الموظف الفاسد، المسؤول عن كلّ مصيبة في هذه البلاد. وقد يكون هذا الموظف عاملاً في مؤسسة (كما عُرض في مسلسل يوميات مدير عام)، أو وزيراً (غزلان في غابة الذئاب)، وربّما عضواً في مجلس الشعب. المهم إنّه فرد واحد فاسد. لا ينتمي لمنظومة ولا يعبّر عن حكومة. في محاولة لاستخدام العذر العابر للحدود التاريخية، والسياسية، بالكلمة السحرية: أخطاء فردية.


ما يثير الاهتمام في هذا المسلسل وما دفعني إلى مشاهدة العمل لآخره والكتابة عنه، هو السردية الجديدة التي تحاول الدراما -كما يبدو- تبنيها. نكتشف من خلال العمل، أن جميع الشخصيات الفاسدة والمعطوبة في هذا العمل، هي شخصيات آتية من المجتمع المحلي لحارة العطارين. وأن اللغز الكبير القائم وراء خراب هذه الحارة يتخفى وراء وجوه أهلها وسكانها السابقين، وكأن الحارة، دمرت نفسها بنفسها، بفصائل ومجموعات مسلحة ولدت داخلها ومن داخلها، لتدمر نفسها، دون أية تدخلات خارجية (دون أي ذكر للجيش والدولة). كل ما حدث قبل الخروج وكل ما سيحدث بعد الخروج من خراب ودمار، سببه أهل الحارة نفسهم. هم المسؤولون الوحيدون. بل إنّ مجموعة معينة من هذا المجتمع هي المسؤول الأكبر.


وبالطبع فإنّ أسهل تهمة يمكن رميها في هكذا ظروف ستكون من نصيب المجتمع الإسلامي في سوريا. وبالتالي، ستكون حارة العطارين ضحيّة أبنائها المسلمين المتشددين، دون مناقشة ظروف تشكل وحقيقة وجود هذه المجتمعات السلفية في الأرياف السورية. وإنّما التسليم الكامل لفكرة وجود مخططات سلفية في المنطقة مع تصوير استشراقي (أمريكي-أفغاني) لهذا المجتمع ومخططاته. المذنب الآخر في تهمة خراب الحارة تذهب لمثقفها الذي فشل في تربية عائلته المنحلة وفق الصورة النمطية للمثقف السوري، والتي تريد الدراما تعزيزها، وفشله في تحقيق غاياته العبثية في التغيير، مع التأكيد على عبثية أفكاره بل أنانيتها وربّما تورطها بأجندات خارجية (أموال أجنبية مقابل مقالات بسيطة). أما المتّهم الأخير في ذنب الخراب فهو الموظفون الفاسدون الذين ينتمون لهذه الحارة أصلاً ويعملون وفقاً لمصالحهم الشخصية، دون تدخلات خارجية من الحكومة.


يقدّم العمل بشكل أساسي، فكرة التغيير الديموغرافي في المناطق المدمرة. معتمداً السردية نفسها ذات التدمير الذاتي (التي تتهم السوريين فقط بخراب بيوتهم)، يرينا العمل أن هذه التغييرات والمخططات والأجندات، ما هي إلا مؤامرات خارجية لكنّها طبعاً تمرّ عبر أبناء الحارة ومنهم، فمنها الأجندات الغربية (يذكر أحد التجار مدينة لاس فيغاس، بإشارة فقيرة ومثيرة للسخرية فعلا)، ومنها الممولة من أجندات دينية، ومنها القائم على مصالح توسّع شخصية لبعض الفاسدين من أهل الحارة، أو تجارها. مما يذكرني ويعيدني إلى بداية المقال وللصحفية التي تقوم بإطعام فقراء الأسواق الشعبية، بفعل أخلاقي ضروري وهام، لتغطية الرسالة الأساسية من العمل، والتي تقوم بإثبات تواطؤ التجار، أو مسؤوليتهم التامة في هذا الخراب الذي يعيشه المواطن السوري.


ولا بدّ من الإشارة إلى ألوان الصورة التي صنعها مخرج العمل عن دمشق، وريفها في هذا العمل. إذ لا تخلو الصورة من استشراق ذاتي كما ذكرت سابقاً. ويتجلى ذلك من خلال صورة حارة العطارين وألوانها من جهة وصورة المدينة في شارة العمل من جهة أخرى. اعتمد صنّاع العمل على لون مائل للصفرة Sepia في كل المشاهد المتعلقة بالحارة، بل كان لون هذا الريف الدمشقي صحراوياً دائماً. ومن غير الممكن أن نتجاهل عنصر سحب اللون الذي قام به هذا الفلتر الأصفر الذي سحب عن هذه الحارة ألوانها، أي سحب الحياة عنها بشكل أو بآخر. وهو ما قام به العمل في شارته كذلك، حيث اعتمد على لقطات جوية لمدينة دمشق مستخدماً الألوان الهوليوودية نفسها المستخدمة في إطار الحديث عن الشرق الأوسط. ولا يسعني إلا أن أذكر غياب مدينة دمشق عن العمل بصرياً، غياباً فجًاً وغريباً، رغم الحاجة لظهورها في مشاهد مختلفة. تدفعني هذه الملاحظة لتذكر الراحل حاتم علي، وتذكّر دمشق الملونة في أعماله رغم كل جراحها.


يبدو العمل تحررياً/ إصلاحيّاً، داعياً لمحاربة التشدد، أو لمحاربة الإقصاء، لكنّه يهاجم الفنّ، يسلّط ألسنة درامية ساذجة من خلال حواراته وتمثيلاته للفنّان السوري، (رولا الموسيقية، أخوها الرسام، المعارض السكير الموسيقي، المغنية عتاب "الساقطة".. الخ) ويعزز كلّ الأفكار النمطية والتقليدية حول صورة المثقف/الفنان في هذا البلد المتهاوي، فيؤكد على سرديات غير دقيقة في وصف لا جدوى الثقافة وأصحابها وأدوارهم التخريبية في سوريا المستقبل والماضي. ويمكن أن نفهم هذه الحركية التي يعمل وفقها هذا المسلسل مع هذه الأفكار كمحاولة للحفاظ على نظم سلطوية وبنى سابقة يمكن أن نصفها بالنظم المقدسة، والتي تأخذ في حالة سوريا أشكالاً متعددة من الديني للعلماني، مما يزيد التوتر بين المفهومين، لكنّها بدون أدنى شك، تفيد السلطة القائمة عبر وجود هذه الثنائيات.


هل تشبهنا هذه الدراما؟ أو هل تشبه الدراما السورية السابقة لـ(قبل الخروج)؟ هل تغّيرت الدراما السورية أم أن مسافة السوريين عنها جعلتهم يرونها بشكل أفضل؟ من تغيّر إذن؟ نحن أم الدراما التي نصنعها أو تُصنع لنا.


0 views0 comments
Post: Blog2 Post
bottom of page