- mwaffahajjar
مقابلة عمل

اتصلوا بي أخيراً. قالوا قرأنا ملفّكِ ونودّ لو أمكن أن نقابلكِ بخصوص العمل معنا.
كدتُ أُطير، امتلأت بغاز السعادة وتحولت إلى بالون من الحلم. جئت إلى هذه المدينة قبل عدة سنوات، لكي أحقق نفسي وبدأت دراسة ما أحبّ. الكتابة! حصلتُ على شهادة في الكتابة الإبداعية. من واحدة من أفضل الجامعات في العالم. هذا هو الحلم. بل إنه إيماني بشهرزاد التي في داخلي. أعرف أنّي كاتبة مذ كنت مراهقة. لقد كتبت حياتي كلها ونفذتها. كنت أكتب كي أوجد، وقد وجدتُ كي أكتب. فما أنا إلا حيوان ناطق. كما يريد الجاحظ.
هيأت نفسي، لم أفكر كثيراً بما سأرتدي. كنتُ أفكر في أهمية هذا اليوم بالنسبة لي. إنّه اليوم الذي سأتحول به إلى امرأة حرة. امرأة تعيش مما تكتب. وكان العمل خيالياً بالنسبة لي. إنّها الفرصة التي فكرت فيها. سأمتلك مكتباً خاصاً، وحاسباً جديداً وسأكتب. سأكتب لكل العملاء الذين يريدون أن أحكي قصصهم. الآن دوري في كتابة قصص الآخرين. بعد أن كتبتُ قصتي.
كانت موظفة الاستقبال -تشبه أحداً ما لكنّي ما زلت حائرة- هادئة ورزينة. كابتسامتي في ذلك اليوم. لحظة سأخبركم عن الطريق. لأني قررت صباح ذلك اليوم أن أخرج من بيتي باكراً، قبل موعدي بساعتين. مشيت في شوارع المدينة المزدحمة. أحبّ المدن المزدحمة. إنها الإثبات الأوضح على الحياة، بعشوائيتها وسرعتها، تشبه الكون كله. كما تمشي الغيوم في السماء، تتشكل، تمطر، تتبخر تعود. يتحرك البشر في المدينة. وتتحرك الحياة داخل تحركهم. يرسمون مكاناً ويتحركون داخله. فمن قرر للشارع أن يكون شارعاً سوى السيارات؟ ومن أراد للمقهى أن يكون مقهىً سوى الزوار. إنها خرائط البشر التي تبني خرائط المدن. فكّرت في ذلك وابتسمت.
ركبت القطار. أحبّ القطارات (كنتُ أحبّ الحياة كلها في ذلك اليوم). أحبّ كيف تسير القطارات دون هوادة. تنطلق كلّ يوم، تعيدُ الرحلة نفسها. تذهب مع الموظفين والعمال والطلاب والناس، إلى أهدافهم. تحرزها وتؤوب إلى بيتها ليلاً دون أن تتذمر. توقن أهميتها وتعرف أن عجلتها تعني عجلة الحضارة. فما المدينة دون قطار يخترق أحشاءها؟
وصلتُ إلى العنوان. كان البناء فضّياً، وزجاجياً أنيقاً من الخارج. يشبه أحد خواتم جدتي الفضّة. ما أحلى الفضّة.
قالت موظفة الاستقبال بهدوء ورزانة: ستدخلين إلى المدير خلال خمس دقائق. تفضلي بالانتظار هنا.
دخلتُ. وكان المدير رجلاً في عقده الخامس أو في نهاية عقده الرابع على أحسن تقدير. يرتدي بدلته الكحلية كأي مدير. لقد شاهدت مئات الأفلام والمسلسلات الأجنبية وكنت أنظر إلى كل رجال الأعمال في تلك المسلسلات وأتخيل مديري. كيف سيكون؟ هل سيكون أحمقاً، أم سيكون لطيفاً؟ كان لطيفاً فعلاً. سألني عن مؤهلاتي، ثم أعاد عليّ ما ذكرت في ملفيَّ الشخصي. كانت المقابلة سريعة نوعاً ما. سألني عن الراتب المتوقع، وكنت قنوعة. سألني عن إمكانية البدء بالعمل مع الأسبوع المقبل. أشرتُ موافقةً! ثم همّ بالوقوف، فوقفت. فقال: لا عليكِ أنا سأخرجُ الآن. أنت انتظري هنا قليلاً، سيكون هناك جزأ ثانٍ للمقابلة. وبعد ذلك نتمّ توقيع العقد بكل سرور. قلتُ مستغربة وبخجل ممزوجٍ بالفرح: طيّب.
دخلت سيدة أخرى، كنت أعرفها، لم أصدّق عينيّ. كانت إحدى معلماتي في المدرسة الابتدائية. نعم، إنها آنسة لبنى! ماذا تفعل هنا؟!
جلست آ.لبنى على كرسي المدير. ونظرت في صميم عيني. ثم قالت: ما الذي تفعلينه هنا يا ابنتي؟
أتريدين العمل حقاًّ؟ ألم تفكري في حجم المأساة التي تنتظرك؟ أتعرفين معنى أن تعملي وتتزوجي وتنجبي في نفس الوقت؟ ثم هل تزوجتِ؟ ماذا تفعلين بنفسك؟ لا حول ولا قوّة إلا بالله. أمك امرأة صالحة وأبوك رجل طيب. لماذا؟
لم أستطع أن أتنفس بكلمة واحدة. كان حاجباي مرفوعين باستنكار شديد. وقلبي في العمق، يحترق. حاولتُ أن أستجمع قواي لأقول أيّ شيء. لكنها همّت بالوقوف. وخرجَت.
وقبلَ أن يُغلق الباب مجدداً، أدخل أخي رأسه من الباب وصرخ: يا بنت! أين مفتاحي؟ ألا تستطيعين أن تكوني نافعة ولو مرةً واحدة؟ - أبعدَه أبي عن الباب وقال له: كفى صراخاً. انقلع! أريد أن أتكلم إلى أختك.
هكذا تماماً! كان الخوفُ يأكل أصابع قدميّ داخل الحذاء، وأسناني ظلّت تؤلمني عند الفكّين لكثرة ما ضغطت عليها لأتأكد أنني حيّة.
دخلَ أبي، جلس على الكرسي. ونظرَ إليّ. لم يتكلم لأكثر من خمس دقائق. ثم بكلّ هدوء قال: اسمعي يا بنتي. ستعودين معي إلى البيت، أنا انتظرك خارجاً في السيّارة فلا تتأخري. الله يرضا عليكِ.
بكيتُ، بكيتُ كطفلة. خرجَ أبي وتركني على الكرسي في ذلك المكتب الجميل، في المبنى الفضيّ الذي يشبه خاتم جدّتي. حتى إذا ما تنهدت أول نهدة بعد البكاء، جاءني صوتٌ أكرهه. كان حبيبي السابق يقف عند الباب، بكنزته الرمادية التي اشتريتها له. كان يبتسم. دخل بثقة ولم يغلق الباب. كان ينظر لي بشفقة واحتقار.
قال: ألم تكتبي من أجل أن أعود إليك؟ أتذكر رسائلك الغبية، وأضحك دائماً. كنت تكتبين ليل نهار كي أعود لك. ما الذي حدث؟ من أين أتتكِ كلّ هذه الشجاعة؟ الآن تريدين أن تصبحي كاتبة؟ يبدو أنك لا تريدين مواجهة الحقيقة: لن أعود لك. ولن تصبحي كاتبة.
خَرَج.
وخرجتُ بعدَه مع دموعي وقهري. أجرر نفسي إلى المصعد. نظرَتْ لي موظفة الاستقبال بهدوء ورزانة -اكتشفت حينها أنّها تشبه أمّي- وقالت: معَ السلامة.
(من مخطوط "خبّاز الأرقام" ٢٠٢١)