- mwaffahajjar
نهاية عقد وبداية آخر

ينتهي العقدُ عما قليل، ونصبح أقسى، وننسى، كيف أكل الطغاة خبزنا والموتُ أهلَنا و الريحُ دربَنا و الوقتُ وقتَنا و البعدُ صمتَنا، وكيف تمادت علينا ذكريات الأماكن و اقتلعت عيوننا وأخذتها نحوها، نحو متكأ من صدأ و حياة كاذبة لكننا نحبها، ونحب ذاكرتنا الكاذبة، ونعشق الانتقاء الذي تقوم به أذهاننا.
لقد مر عقدٌ علينا، خسرنا بها بلادنا، وكسبنا هويات أخرى، ولغات أخرى، وشوارع و أصدقاء آخرين، وحبيبات أخريات، ومحطات وباصات و ساحات جديدة، خسرنا بها خبزنا الذي أكله الطاغوت و كسبنا أحزاننا التي نأكلها وحدنا في الليل.
لقد مر عقد طويل طويل طويل، سُجنا به بأفكارنا و أذهاننا و ماضينا، تحررنا من أبوية دمرت مستقبلنا و بنينا ماضياً أفضل ربما. ولكننا نحتنا أنفسنا و شكلنا هوياتنا الجديدة أيضاً.
خسرنا عائلاتنا و ربحنا النضوج وحدنا، تأثرنا و أثرنا.
لقد مر عقدٌ، سنة في دمشق خمس في حمص و أربع هنا، عشر سنوات من الاستكشاف الذاتي للذات و التجربة، عشر سنوات تعلمت بها الحزن و الموت و القهر و الحصار والشجار و النقاش و الصراخ و الجراح وتعلمت:
أن أحلق لحيتي بشفرة
وأن أصطاد ذنوب أبي بدمعة،
وأن أرسم أمي بتسجيل صوتي،
وأن أوبخ أخي بصورة،
وأن أعانقهم ببكاء صامت في فراش.
عشر سنين تعلمت فيها الشّعر، لم أكتبه تماماً لكني أعرف أني تعلمته و وجدته وصرت قادراً على التقاطه.
تعلمت أسماء الفراشات و تسمية الأنهار،
وسمعت بكاء إشارات المرور و ضحكات الجبال،
تعلمت القفز من الشرفة دون انتحار،
تعلمت الكتابة دون ورقة، والصمت في حديث،
وإلقاء الشعر دون تكلم.
وتعلمت أن أكوي قصائدي و قمصاني،
وأن أقص نصوصي و شتلات الزرع في شرفتي،
وأن أعانق نفسي و أن أحترم الآخرين وتعلمت أن أتعلم.
أثرت و تأثرت و رأيت نفسي أعلم الآخرين أشياء لم أعرف أنني أعرفها.
لقد مر عقدٌ، كادت به الأرض أن تأكلني.
والرصاصة أن تقتلني.
والصاروخ أن يجرفني.
والشرفة أن تدفعني.
والسيارة أن تركلني.
والحبيبة أن تحبني.
والصديقة أن تكرهني.
والصديق أن يخونني.
والشعر أن يهجرني.
والمرآة أن تسرقني.
والجهل أن يقتلني، والعلم أن يقتلني، و الحب أن ينقذني.
لقد مر عقدٌ، لم أحبب به سوى قليلاً ولم تحبني به امرأةٌ، تعلمت به أن أفرّق بين المرأة والقصيدة والشعر والنثر، العلم والدين. وتعلمت أن أسأل، وأن أقول لأمرأة تغويني أنني أكثر حزناً مما تتوقع. عشر سنين، جعلتني رجلاً، طفلاً ومراهقاً يحلم دون توقف بالتغيير الذي يعرفه. وأنا في هذا الوقت من الليل في غرفتي الواسعة و سريري الشاسع و موسيقاي الدامعة، والقلق الجائع، جميعنا نشتاق لكم لأهلي، لأن أكون في غرفتي في قدسيا، في غرفتي في السكن الجامعي، في بيت جدتي في شوارع دمشق، على طريق حمص، ونشتاق للحظات اختارتها ذاكرة انتقائية كاذبة تجمل القبيح و تحلي المؤلم، ولا عجب ولا اعتراض.
كوالالمبور- ديسمبر ٢٠١٩